فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (107):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [107].
{أَفَأَمِنُواْ} أي: هؤلاء المشركون: {أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ} أي: عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي: فجأة: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: بإتيانها، وهذا كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 45- 46- 47]، وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97- 98- 99].

.تفسير الآية رقم (108):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [108].
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} أي: هذه السبيل، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، سبيلي، أي: طريقي ومسلكي وسنتي. والسبيل والطريق يذكَّران ويؤنثان. ثم فسر سبيله بقوله: {أَدْعُو إِلَى اللّهِ} أي: إلى دينه وتوحيده، ومعرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله: {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: مع حجة واضحة، غير عمياء {أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: آمن بي، يدعون إلى الله أيضاً على بصيرة، لا على هوى {وَسُبْحَانَ اللّهِ} أي: وأنزهه وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك، أو ندٌّ أو كفءٌ أو ولد أو صاحبة، تعالى عن ذلك علواً كبيراً {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: على دينهم.
تنبيهات:
الأول: قال السمين: {أَدْعُو إِلَى اللّهِ} يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الياء، و{عَلَى بَصِيرَةٍ} حال من فاعل: {أَدْعُو} أي: أدعو كائناً على بصيرة، وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطف على فاعل: {أَدْعُو} ولذلك أكد بالضمير المنفصل. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، أي: ومن اتبعني يدعو أيضاً، ويجوز أن يكون: {عَلَى بَصِيرَةٍ} خبراً مقدماً، و{أَنَا} مبتدأ مؤخراً و{مَنِ اتَّبَعَنِي} عطف عليه، ومفعول: {أَدْعُو} إما منوي، أي: الناس، أو منسي.
الثاني: دل قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} على مزية هذا الدين الحنيف، ونهجه الذي انفرد به، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين، وكرَّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه- انظر رسالة التوحيد في تتمة ذلك.
الثالث: دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله.
قال الرازي: كل من ذكر الحجة، وأجاب عن الشبهة، فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله. وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وأن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك، فهو محض الغرور. انتهى.
ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين وإذاعة آدابه وتعليمه.
قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته ومجالسته لهم، في بيان الواجبات والمحرمات، ونوافل الطاعات، وذكر الثواب والعقاب، على الإحسان والإساءة. ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها، ويزيد بياناً للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها، ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، ومضطرون إليه، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال. والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين، علماً وعملاً، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم، فيعم الهلاك، ويعظم البلاء. وقلما تختبر عامياً- وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلاً بالواجبات والمحرمات، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها. وإن لم يوجد جاهلاً بالكل، وجد جاهلاً بالبعض. وإن علم شيئاً من ذلك، وجدت علمه به علماً مسموعاً من ألسنة الناس، لو أردت أن تقلبه له جهلاً فعلت ذلك بأيسر مؤونة، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه. وعلى الجملة، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم، ويحدثوهم به، ويبثوه لهم، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاؤوا من أجله، مثل ما إذا جاؤوا لعقد نكاح، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف. أو لعقد بيع، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها، وفوائد التجارة النافعة، واجتناب الغش والخداع وهكذا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يصرف شيئاً من أوقاته في غير إقامة الدين. وبالسكوت عن التذكير والتعليم، يغلب الفساد، ويعم الضرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (109):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [109].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: لا ملائكة من أهل السماء، رد لقول المشركين: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} [فصلت: من الآية 14]، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: من الآية 20]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]. وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل} [الأحقاف: من الآية 9] الآية.
واحتج بقوله تعالى: {إِلاَّ رِجَالاً} على أنه لم ينتظم في سلك النبوة امرأة.
والقرى: جمع قرية، وهي على ما في القاموس: المصر الجامع، وفي كفاية المتحفظ: القرية: كل مكان اتصلت به الأبنية، واتخذ قراراً. وتقع على المدن وغيرهما. انتهى.
قال ابن كثير: والمراد بالقرى هنا المدن. أي: لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً. وهذا هو المعهود المعروف: أن أهل المدن أرق طباعاً، وألطف من أهل بواديهم. وأهل الريف والسواد أقرب حالاً من الذين يسكنون في البوادي. ولهذا قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الآية [التوبة: من الآية 97].
قال قتادة: إنما كانوا من أهل القرى؛ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العُمور.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي: هؤلاء المكذبون {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ} أي: نظر تفكر {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: من الأمم المكذبة، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية [الحج: من الآية 46]، فإذا استمعوا خبر ذلك، رأوا أن الله أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين. وهذه كانت سنته تعالى في خلقه، ولهذا قال تعالى: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ} أي: الشرك والفواحش، وآمنوا بالله ورسله وكتبه.
قال ابن كثير: أي: وكما نجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا، كقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: تستعملون عقولكم، فتعلموا أن الآخرة خير، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك.
ثم بيَّن تعالى أن العاقبة لرسله، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم، تثبيتاً لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (110):

القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [110].
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} أي: من إجابة قومهم {وَظَنُّواْ} أي: علموا وتيقنوا، يعني: الرسل {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} يقرأ: {كُذِّبُوا} بضم الكاف وتشديد الذال. أي: كذبهم قومهم بما جاؤوا به؛ لطول البلاء عليهم. ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال، فالضمير في: {ظَنَّوا}- على ما اختاروه- للقوم. أي: ظنوا أن الرسل قد كذبوا. أي: ما وعدوا به من النصر.
وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل. أي: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. وقال: كانوا بشراً، وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّه} [البقرة: من الآية 214]، وقد استشكلوه على ابن عباس، وتأولوا لكلامه وجوهاً.
قال الزمخشري: أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة، وحديث النفس، على ما عليه البشرية. انتهى.
وقيل: المراد بظنهم عليهم السلام ذلك، المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما؛ لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.
وقال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تُكْذَبُ بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم، لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر، وشدة استنجاز ما وعدوا به- توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسباناً من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بني له الفعل أنفسهم، لا الآتي بالوحي. والمراد بـ الكذب: الغلط، لا حقيقة الكذب، كما يقول القائل: كذبتك نفسك.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده قراءة مجاهد: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذِبُواْ} بفتح أوله مع التخفيف أي: غلطوا. ويكون فاعل {وظنوا} الرسل.
وقال أبو نصر القشيري: ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم. أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه.
وقال الترمذي الحكيم: وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة.
وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال: ما روي عن ابن عباس غير معول عليه، وأنه ليس من كلامه، بل تؤول عليه.
قال ابن حجر: وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، أي: فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ: ذهب بها هناك، وأشار إلى السماء، وزاد الإسماعيلي عنه: كانوا بشراً ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.
وروى البخاري أن عائشة كانت تقرأ {كذبوا} مشددة، وتتأولها على المعنى الأول، وأن عروة قال لها: لعلها {كذبوا} مخففة، فقالت: معاذ الله!.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء: عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي، والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين.
وقوله تعالى: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء} وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرئ {فننجي} بالتخفيف والتشديد. وقرئ {فنجا}.
{وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} أي: عذابنا: {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: إذا نزل بهم.
وفيه بيان من شاء الله نجاتهم؛ لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين، وهم من تقدم.

.تفسير الآية رقم (111):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [111].
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} الضمير ليوسف وإخوته، أو للأنبياء وأممهم. ورجح الزمخشري الثاني بقراءة {قصصهم} بكسر القاف، جمع قصة. والمفتوح مصدر بمعنى المفعول. وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة، وقد يطلق الجمع على الواحد، كما مر في: {أَضغَاثُ أَحْلاَمٍ} وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى.
{مَا كَانَ} أي: القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة: {حَدِيثاً يُفْتَرَى} أي: يختلق {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة، فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
قال بعض المحققين: المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة، بدليل وجود أمثالها بين الناس، قبل نزوله. فهي وإن اختلفت قليلاً في بعض التفاصيل والجزئيات، عما يرويه الناس، إلا أن توافقها في الجملة، وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب، تجدوا أنها معروفة بينهم، ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده؛ لأن النبي صلوات الله عليه، لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا إذ لو صح هذا لما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، فقصصه قد تختلف عما عندهم، وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات- كما قلنا- ويجوز أن يكون المراد بقوله: {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} تصديق الحق الذي عندهم، لا كل الذي عندهم، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقاً لما جاء لإبطاله. فتنبه لذلك. ولا تكن من الغافلين. انتهى.
وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والآداب والأخلاق، ووجوه العبر والعظات، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، وتبتغي به الرحمة من رب العباد، كما قال تعالى: {وَهُدًى} أي: من الضلالة: {وَرَحْمَةً} أي: من العذاب: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون به، ويعلمون بأوامره، فإن الإيمان قول وعقد وعمل. وخصهم لأنهم المنتفعون به.
خاتمة في مباحث مهمة:
الأول: فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص.
قال في اللباب: الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع، قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة، وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الإقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولاسيما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية. فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا، وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبي، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْك} [هود: من الآية 120] الآية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة؛ لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة، فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضر، وقلة ذات اليد: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ} [يوسف: من الآية 88] الآية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، ورد بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين. ثم استخلاص العزيز إياه، إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر. فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم. وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: من الآية 55] إلى قوله: {أَمْنَاً} وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرتهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عِمْرَان: من الآية 103]، وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم. فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص- والله أعلم-.
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، وما أعد لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه، فتأمل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل} [يوسف: من الآية 110]. فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه- كذا في تفسير البرهان للبقاعي ملخصاً-.
وجاء في كتاب النظام والإسلام في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله:
طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب كليلة ودمنة وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب فاكهة الخلفاء ومقامات الحريري. جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي- لا جرم أعلى منالاً، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لاسيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟ تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وإنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصون في خرافتهم، فتلك سبيل حائد عن الجادة، يضل فيه الماهرون، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: من الآية 22] فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين، ثم لم يبين الحقيقة؛ لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة، وإن قال: أربعة، قالوا سبعة. فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة. وبالإجمال: فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها، والعبر المبصرة للسامعين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع، إذ لا لزوم له، ولا معول عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جملية، تلذ العقلاء. ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم، إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا، دلالة على أن للطفل استعداداً يظهر على ملامحه، وأقواله، وأفعاله، ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق، كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأملون ملامحهم؛ ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجب والذئب والدم؛ لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحه، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه، دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبياً، ولا حكيماً، ولا عالماً مهما حسنت أخلاقه وجمل ظاهره وباطنه.....!.
كل العدوات قد تُرجى إزالتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

جرت تلك السنة في الأناسي، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عف مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري..! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمنتها تلك القصة!.
فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء- أولهم وآخرهم- تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولاً فالمنزل فالمدينة، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها؛ إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله!.
بايع الصحابة- عليهم رضوان الله- الخليفة الأول، فأخذ قماشاً وذراعاً وذهب إلى السوق في الغداة، فاستاء الصحابة ولاموه، فقال: إذا أضعت أهلي، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال، فقال: إذن أنظر في شؤونكم! لذلك نجد الغربيين- إذا ولوا رجلاً إدارة بلادهم- أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله، علماً منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة.
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية، ورتبت في القرآن ترتيباً محكماً، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا: النفس فالمنزل فالمدينة، ترتيباً طبيعياً، تنبيهاً لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم، وعبد الله وحده، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة...؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم..!
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية، فلم يكن ذلك كافياً لإدارة أموره العامة، فأودع السجن، وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله، وبث عقيدته بينهم، ظاهراً بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه} [يوسف: من الآية 37] الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه، وحبه لمذهبهم، وبغضه لأصنام المصريين ونحوهم، فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف: من الآية 37] الآية. ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تَسُدْ أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أياً كانت، فيؤمون مقصداً واحداً! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب..!.
وفي آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها: كاللغة، والوطن، والدين، والأخلاق، والجنس، والحكيم المرشد، والأب الأكبر، ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة.
ولما تم له، عليه السلام، الأمران- سياسة النفس والعشيرة- أخرج من السجن معظماً مبجلاً، وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات، والبقرات السمان والعجاف، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله؛ لئلا يفسد، وغير ذلك من الأمور العامة. وهذه هي المرتبة الثالثة: سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين.
والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إما بوحي، وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإما بتعليم وتدريب، وهو اللائق بسائر الناس.
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لابد يوماً ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان، وتعليم الصديق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين.
ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص!.
وهذه قصة يوسف- الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة- جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال، فساس مصر بعد أن كان مسوساً، وملك بعد أن كان مملوكاً! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصاً بالآخرة، بل في الدارين: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يوسف: 56- 57].
هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجاً، في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية؛ ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ، كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة، وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة، وبها نفهم ما ذكر في أولها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: من الآية 3]، دع قول الجاهلين، وفهم المتنسكين، وتجاوز خلط المؤرخين، واختلافهم، واصغ إلى ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء، كما أشرنا سابقاً، ولنزدك بياناً!:
قال علماء الأخلاق والحكماء: لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة، وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبياً فله أربعون خصلة ذكروها. كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته. وإن كان رئيساً فاضلاً لمدينة فاضلة، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها. وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين. ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال؛ إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة؛ لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيهاً للمتعلمين- العاشقين للفضائل- على نفائس الكتاب العظيم، وحباً في نظرهم في القرآن، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب!.
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: من الآية 24].
2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: من الآية 77].
3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: 59- 60]، والصدر للين والعجز للشدة.
4- ثقته بنفسه: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية 55].
5- قوة الذاكرة؛ ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون؛ ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58].
6- جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: من الآية 4].
7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38]، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: من الآية 101].
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: من الآية 39] الآية، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما، فالأول بقوله: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: من الآية 37]. والثاني بقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يوسف: من الآية 37] الآية، وشهدا له بقولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: من الآية 36].
9- العفو مع القدرة: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
10- إكرام العشيرة: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: من الآية 93].
11- قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: من الآية 54].
12- حسن التدبير: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: من الآية 47] الآية.
ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} [يوسف: من الآية 62] الآية، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} [يوسف: من الآية 76] الآية، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم، إتباعاً لما رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] الآية، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع، فعاملهم بما هم عليه، لذلك يقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية 76]، امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم. وهذه- وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء!.
تالله! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم! وليت شعري كيف يقول الله بعدها: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية 76]. ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبُله الغُفْل، ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم! فحيا الله العلم وأدام دولته!.
ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعاً: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: من الآية 76]، وهذه:- وأيم الله- هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلباً لحصول المقاصد النافعة، ودخولاً للبيوت من أبوابها، ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد...! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة!.
لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، ويقول في آخرها: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [يوسف: من الآية 102]، ويقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: من الآية 110] الآية. ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها؛ إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار، فقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} الآية.
وهذه ترشدك- إن كنت من ذوي الهمة العالية- أن تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمداً طويلاً، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنال حظاً وافراً من الأخلاق والعلوم. فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياماً وأياماً، ولبس للحوادث أثواباً وأثواباً، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة!.
فتأمل! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون! فإذا سمعوا صوتاً حسناً ظنوا أن هذا هو جمال القرآن، فقالوا للقارئ: سبحان من أعطاك! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة، أو مجرد التفسير ومعرفة القصة، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها! فقبح الجهل! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع.. كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون، وتلا القرآن- وهو كلام مبدع الكون- وتلطف في تصوير المعاني، وألبسها أجمل لباس، فأعرض العقلاء فضلاً عن العامة! فما للعامة لا يتعلمون! وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون؟ وما للناس لا يكادون يفقهون؟.
ذكرنا نموذجاً عن هذه السورة استنشاطاً لهمم العقلاء، وحثاً لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة- على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض! وجلي أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مراً. فيقصدها هذا للنغمات، وذلك لقصة بسيطة، وآخر تسلية وتضييعاً للزمن، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها.
ولكن هذا أرقى مما قبله فقد سار في الطريق وهي الألفاظ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعدَّ تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا. وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر: من أين هذا الحديد؟ ولم يجلب الماء؟ وإلى أي: مسافة يرتفع، وما العلة فيه، ومن أين يأتي الفحم الحجري، وفي أي: الطرق يسير إلى أن يصل إلينا؟ فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه.! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة فحسب! اللهم إلا قدراً يسيراً للفهم! وهذا- لعمر الله- انتكاس على الرأس، واتخاذ الوسيلة مقصداً، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين، فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج! ذلك مثلهم.!! انتهى.
المبحث الثاني:
احتج من جوز المعصية على الأنبياء- وهم الكرامية والباقلاني- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه.
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في الملل والنحل:
ما احتجوا به لا حجة فيه؛ لأن إخوة يوسف، عليه السلام، لم يكونوا أنبياء، ولا جاء قط- في أنهم أنبياء- نص لا من قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن، قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} [غافر: من الآية 34]، وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم، فكيف أن يكونوا أنبياء؟! ولكن الرسولين- أباهم وأخاهم- قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم!
وبرهان ما ذكرنا- من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء- قول الله تعالى حاكياً عن الرسول أخيهم أنه قال لهم: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} [يوسف: من الآية 77]، ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء، نعم، ولا لقوم صالحين!؛ إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس؛ لأن الصالحين ليسوا شراً مكاناً، وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا. ولا يحل لمسلم أن يُدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافٍ بصحة نبوته! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبياً، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم: إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد الأنبياء أنبياء! فهذه غفلة شديدة وزلة عالم، من وجوه:
أولها: أنه دعوى لا دليل على صحتها!.
وثانيها: أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام، وكما أوتي يحيى الحكم صبياً، فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبياً، وقد عاش عامين غير شهرين، وحاشا لله من هذا..!.
وثالثها: أن ولد نوح كان كافراً بنص القرآن: عمل عملاً غير صالح. فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبياً. وحاشا لله من هذا..!.
ورابعها: لو كان ذلك، لوجب ولابد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم، بل جميع أهل الأرض أنبياء؛ لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء؛ لأن أباهم نبي، وأولاد أولادهم أنبياء؛ لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء، وهكذا... أبداً حتى يبلغ الأمر إلينا! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به. وبالله تعالى التوفيق..!
ثم قال ابن حزم:
وذكروا- يعني الكرامية ومن وافقهم- أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه، وإيحاشه أباه عليه السلام منه، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه فلم يفعل، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه، ولم يعلم بذلك سائر إخوته، ثم أمر من هتف: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: من الآية 70]، وهم لم يسرقوا شيئاً، ويقول الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: من الآية 24]، وبخدمته لفرعون، وبقوله للذي كان معه في السجن: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} [يوسف: من الآية 42].
قال ابن حزم: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك، وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل- إلا أحسن الوجوه. وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا. ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه، فكيف برسول الله صلوات الله عليه؟! وأما ظنهم- أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل- فهذا جهل شديد ممن ظن هذا؛ لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين، في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى! فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل، ولا حي هو أو ميت، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به، ولا وجد أحداً يثق به، فيرسل إليه؛ للاختلاف الذي ذكرنا. وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة، ولساناً واحداً وأمة واحدة، والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبُرُد ناهضة وراجعة، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك، ولكن كما قدمنا، ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه، وانقيادهم له للجوع الذي كان عمَّ الأرض، وامتيازهم عنده، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه. وأما قول يوسف لإخوته: {إِنَّكُم لَسَارقُونَ} وهم لم يسرقوا الصواع، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم، فقد صدق عليه السلام؛ لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه، ولم يقل عليه السلام: إنكم سرقتم الصواع، وإنما قال: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِك} [يوسف: من الآية 72]، وهو في ذلك صادق؛ لأنه كان غير واجد له، فكان فاقداً له بلا شك! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره، ولعل الملك أو بعض خواصه، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس؛ إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك، ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: من الآية 48]. وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى. ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام. إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك. وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: من الآية 42]، فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل، لكنه رغَّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه! وهذا فرض من وجهين: أحدهما: وجوب السعي في كف الظلم عنه. والثاني: دعاؤه إلى الخير والحسنات. وأما قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: من الآية 42]، فالضمير الذي في أنساه وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن، أي: أن الشيطان أنساه أن يُذكر ربه أمر يوسف عليه السلام. ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام، وبرهان ذلك قول الله عز وجل: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: من الآية 45] فصح يقيناً أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر. وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام؛ لما كان في ذلك نقص ولا ذنب؛ إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء! وأما قوله: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: من الآية 24]، فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال: إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة. ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم!! فإن قيل: إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد، قلنا: نعم! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك، إذ إنما أخذه عمن لا يدرى من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره؛ لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إما أنه همَّ بالإيقاع بها وضربها، كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: من الآية 5]، وكما يقول القائل: لقد هممت بك، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدِّ القميص. والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله: {ولَقَدْ همَّتْ بهِ} ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل، وبهذا نقول. وبرهان ربه ها هنا: هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة، وهذا لا شك فيه! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف، ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك. وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن؛ إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: «هذه صفية» ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام همَّ بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: من الآية 24] فنسأل من خالفنا عن الهمِّ بالزنى: سوء هو أم غير سوء؟ فلابد أنه سوء، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع، فإذ هو سوء، وقد صرف عنه السوء، فقد صرف عنه الهم بيقين! وأيضاً فإنها قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: من الآية 25] وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]، فصح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءاً، فما همَّ بالزنى قط. ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين، وهذا بيِّنٌ جدًّا، وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: من الآية 33] فصح عنه أنه قط لم يصْبُ إليها.
انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان. وإنما نقلت كلامه برمته؛ لأنه كما قيل:
وما محاسن شيء كله حسن